الشاعر عبد الرحمن الأبنودي .. حارس التراث القروى المصرى
يعد عبد الرحمن الأبنودى من أشهر شعراء الشعر العامي في العالم العربي .. شهدت معه وعلى يديه القصيدة العامية مرحلة انتقالية مهمة في تاريخها .. وهو من قلائل شعراء العامية الذين أوجدوا لأنفسهم مكانا في وجدان الجماهير العربية، فهو يعتبر نفسه الحارس على التراث القروي المصري.
ينتمى إلى اسرة في قرية ابنود بمحافظة قنا .. ولد عام 1938، وعاش حياة فقيرة جدا .. كان يعمل والده مأذون شرعي .. انتقل عبد الرحمن إلى مدينة قنا حيث استمع إلى اغاني السيرة الهلالية التي تاثر بها وكان ضليع في اللغة العربية بشهادة اساتذته وكان يسمى في الطفولة رمان من شدة حبه للرمان.
في بداية الستينيات حمل القطار الآتي من الصعيد ثلاث مواهب استثنائية: أمل دنقل، يحيى الطاهر عبد الله، والأبنودي. كان الثلاثة سمر الوجوه، ناحلين، مزاجهم ناري، وفي أعماقهم ضعف عميق تجاه الفقراء .. كانت لديهم قناعة بضرورة "غزو المدينة ــــ القاهرة" التي كانت أشبة بـ "النداهة"، تدعو كل صاحب كلمة وقت الثورة ليشارك في معاركها .. اقتسم الثلاثة فنون الإبداع بينهم: لأمل شعر الفصحى، وليحيى القصة والرواية، وللأبنودي شعر العامية .. كان الأخير يعرف أن لديه كنزا لا يملكه الآخرون: قرية أبنود في جنوب مصر، بعاداتها وتقاليدها وناسها، وأمه فاطمة قنديل التي كانت سجلا لكل أشعار القرية وطقوسها، والجدة "ست أبوها" كانتا ــ الأم والجدة ــ فقيرتين إلى أبعد الحدود، غنيتين بما تحملانه من أغان وما تحرسانه من طقوس هي خليط من الفرعونية والقبطية والإسلامية .. أعتبر نفسي محظوظا لأنه عاش مع هاتين المرأتين.
أما الأب الذى كان شاعرا، فلم يتحمل في ذلك الوقت ما يكتبه ابنه فمزق ديوانه الأول "حبة كلام" .. لكن موهبة الابن كانت أكبر من الاستيعاب. أرسل عبد الرحمن الأبنودى مجموعة من قصائده بالبريد إلى صلاح جاهين، فلم يكتف الأخير بتخصيص عموده في "الأهرام" للشاب الجنوبي، بل أرسل قصيدتين له إلى الإذاعة ليبدأ تلحينهما وهما "بالسلامة يا حبيبي" لنجاح سلام، و"تحت الشجر يا وهيبة" لمحمد رشدي.
في القاهرة التحق بأحد التنظيمات الشيوعية، فألقي القبض عليه ( 1966). أثناء اعتقاله أخذت المباحث مخطوط ديوانه "جوابات حراجي القط" المخصص لزوجته فاطنة عبد الغفار، وأوراقا أخرى .. ويقول الأبنودى: "اعتبرت كأني لم أكتبه، وحاولت نسيان الأمر فلم أفلح، وذات ضحى يوم شتائي، هتف بي حراجى لأكتبه، فاندلعت الرسائل متتابعة بِكَرا، كأنني لم أكتبها من قبل .. أنجزته خلال أسبوع، ودفعت به إلى المطبعة من دون مراجعة، كأنه تحد لمن اغتصبوا حراجي الأول."
في السجن اكتشف أن "الشيوعية ليست طريقا لتحقيق الذات أو تقديم خير إلى الفقراء"، وجاءت النكسة ليرى كل الأحلام تنهار .. كتب وقتها أغنيات وطنية لعبد الحليم حافظ .. خرج إلى الجبهة يكتب ديوانه "وجوه على الشط". وفي تلك المرحلة وفر له إعجاب الرئيس عبد الناصر بأعماله حماية من بطش "زوار الفجر". بعد انقلاب السادات بدأ التضييق الأمني على الأبنودي الذى رفض "أمن الدولة" سفره إلى تونس ليستكمل مشروعه في جمع الهلالية .. أتصل به أحد الضباط يفاوضه على السفر مقابل "كتابة تقارير عن زملائه"، فرفض .. وكانت أكثر ذكرى تزعجه من تلك الفترة "شائعات الرفاق الثوريين" حوله.
استطاع الأبنودي الخروج من مصر بعدما يئس الأمن منه .. واختار الشاعر لندن منفى اختياريا لثلاث سنوات، أنهاها عبد الحليم مستخدما "سلطته" في السماح له بالدخول إلى مصر. اعتقد السادات أن الأبنودي سيكون صوته، فأعلن رغبته في تعيينه "وزيرا للثقافة الشعبية" .. لكن اتفاقية "كامب دايفيد" ألهمت الشاعر قصيدته الشهيرة "المشروع والممنوع"، وهي أقسى نقد وجه إلى نظام السادات .. وبسبب هذا الديوان جرى التحقيق مع الأبنودي أمام المدعي العام الاشتراكي بموجب قانون سمي "حماية القيم من العيب".
ويقول الأبنودي بلهجتة الصعيدية الحادة: "في حياتي أخطاء بالغة القسوة، ندمت عليها .. لكن فى الشعر لم أندم على شيء .. لأن الشعر مقدس، لا يأتي بقرار، هو هبة من الله" .. ويتذكر: "عندما كتبت قصيدتي الطويلة {الاستعمار العربي} ضد غزو العراق للكويت، اتهموني بالنفعية والانتهازية .. وللأسف، كل ما قلته في القصيدة تحقق فيما بعد".
الهزيمة صنعته
ويستعيد الأبنودى ذكريات هزيمة 1967 فيقول: ربما كنت مدينا للنكسة بارتفاع الصوت والتحليق في أجواء الإعلام الرسمي بعد أن كنت شبه مستبعد ومريب ويتحاشاني الجميع خاصة أنني كنت قد غادرت أصدقائي من جيل الستينيات المعتقل السياسي في طرة ولذلك وجدتها فرصة للسفر إلي الصعيد والبدء في جمع السيرة الهلالية وقد خرجنا من الاعتقال في أبريل وبعد أقل من شهر حدثت تلك الواقعة التي أبهجت كل أعداء عبد الناصر في الداخل والخارج.
رفضت المباحث العامة أن تسمح لي بكتابة تلك الأغنيات والمشاركة في الحرب ولو بكلمة .. ويحكى الأستاذ أحمد سعيد أنه كافح كثيرا مع المباحث العامة وقال لهم إنه لا يستطيع أن يخوض حربه الإعلامية دون صوت الأبنودي الذي يمثل له المدفعية الثقيلة في جيش الإعلام .. كنت في أبنود قريتي في الصعيد للبدء في جمع السيرة الهلالية حين جاء ذلك التليفون الذي أربك أبنود بحالها إذ لم يكن هناك سوي تليفون الوحدة المجمعة وتليفون نقطة البوليس وتليفون العمدة ولذلك فوجئت بأبناء القرية يهرولون: الحق يا عبدالرحمن تلافون من الإذاعة، أحمد سعيد وعبدالحليم حافظ ووجدى الحكيم.
وتشاجر معي أحمد سعيد مقنعا أياي أن البلد ستدخل حربا فماذا تفعل هناك؟ أجبته: استريح من فترة الاعتقال غير المبررة وأحاول نسيانها حتي لو حاربت مصر فهذا ليس معناه أننا الذين سنحارب إذ كيف أدافع عن النظام وآثار البرش مازالت في اجنابنا؟ فتحدث عبدالحليم متوسلا ومعنفا قائلا: إذن كيف أتخذ مثل هذا الموقف في مثل هذا الظرف؟ وفي الواقع فإنني لم أكن واثقا أن مصر سوف تدخل معركة حقيقية ضد إسرائيل وربما كان الكثيرون مثلي إلا أنه لم يكن ثمة مخرج أمامي سوي الانغماس في هذه التوريطة.
هكذا عدت بالقطار وأثناء الرحلة التي تزيد علي اثنتي عشرة ساعة في ذلك الوقت كتبت تلك الأغنيات التي صارت أغنيات الحرب فيما بعد وبمجرد وصولي التقيت بالأستاذ كمال الطويل كنت أقيم في بيته طوال النهار وأعود إلي بيتي ليلا وهكذا طوال الأيام التي سبقت المعركة .. وأذكر أنني كنت والأستاذ مجدي العمروسي نمر من أمام الاستوديو الصغير الذي كان الأستاذ سعيد يطلق منه قنابله في اليوم الثالث من الحرب تقريبا وقد انتفخت صدورنا بهواء النصر وبيانات طائرات العدو المحترقة تملأ الدنيا والشوارع لا تنام ولا تهدأ ليل نهار وحالة من الزهو الوطني في كل البيوت ولقد أحب الناس بعضهم البعض، وإذا بنا نري وجه الاستاذ أحمد سعيد أصفر وعيناه في رأسه كأنه يرتدي قناعا مطاطيا لوجه آخر وسأله العمروسي عن آخر الأخبار وكأنه لم ير ملامح وجهه فلم يستطع الإجابة ومد يديه المبسوطتين في يأس شديد أرعبتني .. فسأله العمروسي: يعني إيه؟ أجاب سعيد: أمر الله، وسرنا نحو الاستوديو الذي كان عبد الحليم مازال مع الفرقة الموسيقية يجود أغانيه وسيقاننا لا تقوي علي حملنا .. فأشار العمروسى إلي عبد الحليم من خارج زجاج الاستوديو فجاء غاضبا إذ لم يكن يحب أن يقاطع عمله أحد وسأل ساخطا في إيه يا مجدي؟ أجاب العمروسي إحنا انهزمنا في الحرب.
بدأ الناس في الشوارع ينظرون كل في عيون الآخر في دهشة وعجب وأظنها لحظات لم تمر علي مصر من قبل أو من بعد تشبه كثيرا تلك الدهشة التي علت وجوه المصريين حين سافر السادات إلي القدس أنها لحظات اندهاش كان يجب أن تسجل .. أنطويت علي نفسي بعيدا عن الخلق إلي أن هاتفني عبدالحليم لأستمع إلي بيان الرئيس عبد الناصر وتعليقه علي ما حدث وكانت مصر بأكملها تسب وتشتم وتلصق التهم بكل القيادة من عبد الناصر إلي أصغر جندي لدرجة أن الجنود والضباط كانوا يعاملون أسوأ معاملة في الشارع المصري في تلك الفترة. كنا في منزل عبد الحليم مجموعة من أصحابه منهم الأستاذ أحمد رجب الصحفي المعروف وبليغ حمدي ومفيد فوزي ومجدي العمروسي وأنا ثم دخل كمال الطويل وكان الجميع يشتم ويسب ويتساءل ماذا سيقول وهل لديه عين لمواجهة الشعب بالكارثة وإذا بعبد الناصر يطل بتلك الصورة التعسة حزينا محطما ويعلن تنحيه وإذ بدموعنا جميعا تنهمر وكأننا كنا ننتظر منه أن يكذب ما حدث وأن كل ذلك تمثيلية للتمويه ولكن اعترافه بالهزيمة كان جليا.
نزلنا إلي الشارع وركبنا العربة مع عبدالحليم متجهين إلي كوبري القبة، واندفعت السيارة في شوارع خالية تماما وبعد أن عبرنا نفق العباسية لا ندري من أين جاء طوفان البشر، مشهد رهيب لنصبح نقطة في بحر وليتهددنا هذا الطوفان بالاكتساح وقد وارانا الكثيرون إلا أنهم لم يعيرونا أي اهتمام رغم أنهم تعرفوا علي عبد الحليم حافظ ثم بدأت تتوحد الهتافات وتلتحم الأجساد ولم يعد في القاهرة أسفلت وإنما بشر يغطون مساحة الشوارع جميعا.
بعد فترة هاتفني عبد الحليم وسألني هل سنظل هكذا وهل ستظل مصر بدون أغنية تسجل اللحظة؟ أجبته: لن يستمع الناس إلي أغنية تعترف بالهزيمة ولن يسمح لنا النظام بأن نغني هزيمته، قال ساخرا انت مناضل وذهبت إلي السجن وحين أحتاج إليك في قطعة نضال لا أجدك يا أخي نصنع الأغنية ثم نناضل .. أجبته: هذه هي الأغنية وقرأت عليه موال النهار فصمت بعمق ثم أدار قرص التليفون طالبا من بليغ حمدي أن يحضر في الحال وهكذا ولدت عدي النهار التي وزعها الراحل عبدالحليم نويرة، وكانت الأغنية تعترف بنزول الليل وتبشر بنهار ولأول مرة يحس الشعب المصري أن ثمة أملا في الغد ولعبت الأغنية دورا مهما في إعادة الانتعاش الوطني للروح المصرية ومن ثم الروح العربية أيضا لأنني كل ما نزلت إلي بلد يقولون يكفي علي الأبنودي إنه كتب موال النهار في تلك اللحظة.
وقد كانوا جميعا خائفين من عبد الناصر بسبب هذه الأغنية ومن عجيب الأمر أن الأغنية حين كانت تختفي من الراديو كان عبد الناصر يتصل ويسأل عنها .. وبعدها مباشرة سافرت إلي السويس وأقمت مع الفلاحين من الأقارب والأصدقاء هناك في جناين السويس في مواجهة مع العلم الإسرائيلي علي الضفة الأخري وهي لحظة لا تغيب عن عيني وأنا أري الإسرائيليين وأسمع شتائمهم لنا وجلست إلي فتحية أبوزعزوع وعم إبراهيم أبوالعيون وأم علي وعم محمد عبد المولي وأنا أستمع إلي قصص الجنود الذين عادوا من سيناء مهلهلين بثياب تنكرية وأقدامهم منتفخة من المشي الطويل وكيف كان الفلاحون يصنعون الماء بالملح لكي يضعوا أقدامهم فيها ويدقون البصل ليدهنوا به أقدامهم لتخفيف الورم. وكيف كانوا يطمئنونهم لدرجة أن بعض الجنود كانت تأتيه حالات فزع مفاجئة ويصرخ ويجري في الحقول وكانت القنابل مازالت تتساقط عليهم من الجانب الإسرائيلي.
هذه القصص لا يمكن أن أنساها علي الإطلاق .. فيما بعد طلبوا من هؤلاء الناس الهجرة مع بداية حرب الاستنزاف وهي الحرب الرائعة العظيمة التي لم تأخذ حقها من التكريم والتبجيل لجنودها وبطولتهم الحقيقية هذا إلي جانب منظمة سيناء الثورية التي تكونت من شباب مدينة السويس والذين كانوا يعبرون القناة ويعملون عملياتهم الثورية الفدائية .. أصر كثير من الفلاحين على البقاء ومساعدة الجنود ورأيت عودة الجنود مرة أخري وإعادة بناء الجيش وحفر الخنادق في التلال الرملية المواجهة للعدو الإسرائيلي علي شاطئ القناة .. ولم أستطع الفرار وكنت أعود قليلا إلي القاهرة لاستكمال تسجيل السيرة الهلالية، وتأليف أغنيات لعبد الحليم مثل "المسيح" وأيضا كتبت لعبدالحليم "يا بلدنا لا تنامي" و"من قلب المواكب" .. كما كنت أقيم في ذلك الوقت أمسيات شعرية وغنائية.
بدأت بعد ذلك في كتابة أغنيات مثل "يا بيوت السويس يا بيوت مدينتي" وألتحم بفرقة ولاد الأرض في السويس والتي كونها الكابتن غزالي بكل شباب المقاومة من البمبوطية والعمال وغيرهم .. لذا أعتبر أن تجربة السويس هي أفضل ما عشت في حياتي بعد تجربة أبنود والسد العالي والاعتقال والحرب.
نهاية أقول أنا عاشق لمصر الحقيقية وليست مصر الثقافية، مصر التجربة وليست مصر الوهم والتخيل.. ومن أجل ذلك تجدني شيئا مختلفا تماما عن الإخوة المثقفين، أنا لا أنكر دورهم لأنهم أساتذتنا وهم الذين تربت بهم عقولنا ووجداننا ولكن الخبرة الحياتية هي أم الثقافة والعلم وأنا واحد من الناس تعلمت علي يد مصر نفسها في أكثر من مكان وفي أكثر من موقع.
يعد عبد الرحمن الأبنودى من أشهر شعراء الشعر العامي في العالم العربي .. شهدت معه وعلى يديه القصيدة العامية مرحلة انتقالية مهمة في تاريخها .. وهو من قلائل شعراء العامية الذين أوجدوا لأنفسهم مكانا في وجدان الجماهير العربية، فهو يعتبر نفسه الحارس على التراث القروي المصري.
ينتمى إلى اسرة في قرية ابنود بمحافظة قنا .. ولد عام 1938، وعاش حياة فقيرة جدا .. كان يعمل والده مأذون شرعي .. انتقل عبد الرحمن إلى مدينة قنا حيث استمع إلى اغاني السيرة الهلالية التي تاثر بها وكان ضليع في اللغة العربية بشهادة اساتذته وكان يسمى في الطفولة رمان من شدة حبه للرمان.
في بداية الستينيات حمل القطار الآتي من الصعيد ثلاث مواهب استثنائية: أمل دنقل، يحيى الطاهر عبد الله، والأبنودي. كان الثلاثة سمر الوجوه، ناحلين، مزاجهم ناري، وفي أعماقهم ضعف عميق تجاه الفقراء .. كانت لديهم قناعة بضرورة "غزو المدينة ــــ القاهرة" التي كانت أشبة بـ "النداهة"، تدعو كل صاحب كلمة وقت الثورة ليشارك في معاركها .. اقتسم الثلاثة فنون الإبداع بينهم: لأمل شعر الفصحى، وليحيى القصة والرواية، وللأبنودي شعر العامية .. كان الأخير يعرف أن لديه كنزا لا يملكه الآخرون: قرية أبنود في جنوب مصر، بعاداتها وتقاليدها وناسها، وأمه فاطمة قنديل التي كانت سجلا لكل أشعار القرية وطقوسها، والجدة "ست أبوها" كانتا ــ الأم والجدة ــ فقيرتين إلى أبعد الحدود، غنيتين بما تحملانه من أغان وما تحرسانه من طقوس هي خليط من الفرعونية والقبطية والإسلامية .. أعتبر نفسي محظوظا لأنه عاش مع هاتين المرأتين.
أما الأب الذى كان شاعرا، فلم يتحمل في ذلك الوقت ما يكتبه ابنه فمزق ديوانه الأول "حبة كلام" .. لكن موهبة الابن كانت أكبر من الاستيعاب. أرسل عبد الرحمن الأبنودى مجموعة من قصائده بالبريد إلى صلاح جاهين، فلم يكتف الأخير بتخصيص عموده في "الأهرام" للشاب الجنوبي، بل أرسل قصيدتين له إلى الإذاعة ليبدأ تلحينهما وهما "بالسلامة يا حبيبي" لنجاح سلام، و"تحت الشجر يا وهيبة" لمحمد رشدي.
في القاهرة التحق بأحد التنظيمات الشيوعية، فألقي القبض عليه ( 1966). أثناء اعتقاله أخذت المباحث مخطوط ديوانه "جوابات حراجي القط" المخصص لزوجته فاطنة عبد الغفار، وأوراقا أخرى .. ويقول الأبنودى: "اعتبرت كأني لم أكتبه، وحاولت نسيان الأمر فلم أفلح، وذات ضحى يوم شتائي، هتف بي حراجى لأكتبه، فاندلعت الرسائل متتابعة بِكَرا، كأنني لم أكتبها من قبل .. أنجزته خلال أسبوع، ودفعت به إلى المطبعة من دون مراجعة، كأنه تحد لمن اغتصبوا حراجي الأول."
في السجن اكتشف أن "الشيوعية ليست طريقا لتحقيق الذات أو تقديم خير إلى الفقراء"، وجاءت النكسة ليرى كل الأحلام تنهار .. كتب وقتها أغنيات وطنية لعبد الحليم حافظ .. خرج إلى الجبهة يكتب ديوانه "وجوه على الشط". وفي تلك المرحلة وفر له إعجاب الرئيس عبد الناصر بأعماله حماية من بطش "زوار الفجر". بعد انقلاب السادات بدأ التضييق الأمني على الأبنودي الذى رفض "أمن الدولة" سفره إلى تونس ليستكمل مشروعه في جمع الهلالية .. أتصل به أحد الضباط يفاوضه على السفر مقابل "كتابة تقارير عن زملائه"، فرفض .. وكانت أكثر ذكرى تزعجه من تلك الفترة "شائعات الرفاق الثوريين" حوله.
استطاع الأبنودي الخروج من مصر بعدما يئس الأمن منه .. واختار الشاعر لندن منفى اختياريا لثلاث سنوات، أنهاها عبد الحليم مستخدما "سلطته" في السماح له بالدخول إلى مصر. اعتقد السادات أن الأبنودي سيكون صوته، فأعلن رغبته في تعيينه "وزيرا للثقافة الشعبية" .. لكن اتفاقية "كامب دايفيد" ألهمت الشاعر قصيدته الشهيرة "المشروع والممنوع"، وهي أقسى نقد وجه إلى نظام السادات .. وبسبب هذا الديوان جرى التحقيق مع الأبنودي أمام المدعي العام الاشتراكي بموجب قانون سمي "حماية القيم من العيب".
ويقول الأبنودي بلهجتة الصعيدية الحادة: "في حياتي أخطاء بالغة القسوة، ندمت عليها .. لكن فى الشعر لم أندم على شيء .. لأن الشعر مقدس، لا يأتي بقرار، هو هبة من الله" .. ويتذكر: "عندما كتبت قصيدتي الطويلة {الاستعمار العربي} ضد غزو العراق للكويت، اتهموني بالنفعية والانتهازية .. وللأسف، كل ما قلته في القصيدة تحقق فيما بعد".
الهزيمة صنعته
ويستعيد الأبنودى ذكريات هزيمة 1967 فيقول: ربما كنت مدينا للنكسة بارتفاع الصوت والتحليق في أجواء الإعلام الرسمي بعد أن كنت شبه مستبعد ومريب ويتحاشاني الجميع خاصة أنني كنت قد غادرت أصدقائي من جيل الستينيات المعتقل السياسي في طرة ولذلك وجدتها فرصة للسفر إلي الصعيد والبدء في جمع السيرة الهلالية وقد خرجنا من الاعتقال في أبريل وبعد أقل من شهر حدثت تلك الواقعة التي أبهجت كل أعداء عبد الناصر في الداخل والخارج.
رفضت المباحث العامة أن تسمح لي بكتابة تلك الأغنيات والمشاركة في الحرب ولو بكلمة .. ويحكى الأستاذ أحمد سعيد أنه كافح كثيرا مع المباحث العامة وقال لهم إنه لا يستطيع أن يخوض حربه الإعلامية دون صوت الأبنودي الذي يمثل له المدفعية الثقيلة في جيش الإعلام .. كنت في أبنود قريتي في الصعيد للبدء في جمع السيرة الهلالية حين جاء ذلك التليفون الذي أربك أبنود بحالها إذ لم يكن هناك سوي تليفون الوحدة المجمعة وتليفون نقطة البوليس وتليفون العمدة ولذلك فوجئت بأبناء القرية يهرولون: الحق يا عبدالرحمن تلافون من الإذاعة، أحمد سعيد وعبدالحليم حافظ ووجدى الحكيم.
وتشاجر معي أحمد سعيد مقنعا أياي أن البلد ستدخل حربا فماذا تفعل هناك؟ أجبته: استريح من فترة الاعتقال غير المبررة وأحاول نسيانها حتي لو حاربت مصر فهذا ليس معناه أننا الذين سنحارب إذ كيف أدافع عن النظام وآثار البرش مازالت في اجنابنا؟ فتحدث عبدالحليم متوسلا ومعنفا قائلا: إذن كيف أتخذ مثل هذا الموقف في مثل هذا الظرف؟ وفي الواقع فإنني لم أكن واثقا أن مصر سوف تدخل معركة حقيقية ضد إسرائيل وربما كان الكثيرون مثلي إلا أنه لم يكن ثمة مخرج أمامي سوي الانغماس في هذه التوريطة.
هكذا عدت بالقطار وأثناء الرحلة التي تزيد علي اثنتي عشرة ساعة في ذلك الوقت كتبت تلك الأغنيات التي صارت أغنيات الحرب فيما بعد وبمجرد وصولي التقيت بالأستاذ كمال الطويل كنت أقيم في بيته طوال النهار وأعود إلي بيتي ليلا وهكذا طوال الأيام التي سبقت المعركة .. وأذكر أنني كنت والأستاذ مجدي العمروسي نمر من أمام الاستوديو الصغير الذي كان الأستاذ سعيد يطلق منه قنابله في اليوم الثالث من الحرب تقريبا وقد انتفخت صدورنا بهواء النصر وبيانات طائرات العدو المحترقة تملأ الدنيا والشوارع لا تنام ولا تهدأ ليل نهار وحالة من الزهو الوطني في كل البيوت ولقد أحب الناس بعضهم البعض، وإذا بنا نري وجه الاستاذ أحمد سعيد أصفر وعيناه في رأسه كأنه يرتدي قناعا مطاطيا لوجه آخر وسأله العمروسي عن آخر الأخبار وكأنه لم ير ملامح وجهه فلم يستطع الإجابة ومد يديه المبسوطتين في يأس شديد أرعبتني .. فسأله العمروسي: يعني إيه؟ أجاب سعيد: أمر الله، وسرنا نحو الاستوديو الذي كان عبد الحليم مازال مع الفرقة الموسيقية يجود أغانيه وسيقاننا لا تقوي علي حملنا .. فأشار العمروسى إلي عبد الحليم من خارج زجاج الاستوديو فجاء غاضبا إذ لم يكن يحب أن يقاطع عمله أحد وسأل ساخطا في إيه يا مجدي؟ أجاب العمروسي إحنا انهزمنا في الحرب.
بدأ الناس في الشوارع ينظرون كل في عيون الآخر في دهشة وعجب وأظنها لحظات لم تمر علي مصر من قبل أو من بعد تشبه كثيرا تلك الدهشة التي علت وجوه المصريين حين سافر السادات إلي القدس أنها لحظات اندهاش كان يجب أن تسجل .. أنطويت علي نفسي بعيدا عن الخلق إلي أن هاتفني عبدالحليم لأستمع إلي بيان الرئيس عبد الناصر وتعليقه علي ما حدث وكانت مصر بأكملها تسب وتشتم وتلصق التهم بكل القيادة من عبد الناصر إلي أصغر جندي لدرجة أن الجنود والضباط كانوا يعاملون أسوأ معاملة في الشارع المصري في تلك الفترة. كنا في منزل عبد الحليم مجموعة من أصحابه منهم الأستاذ أحمد رجب الصحفي المعروف وبليغ حمدي ومفيد فوزي ومجدي العمروسي وأنا ثم دخل كمال الطويل وكان الجميع يشتم ويسب ويتساءل ماذا سيقول وهل لديه عين لمواجهة الشعب بالكارثة وإذا بعبد الناصر يطل بتلك الصورة التعسة حزينا محطما ويعلن تنحيه وإذ بدموعنا جميعا تنهمر وكأننا كنا ننتظر منه أن يكذب ما حدث وأن كل ذلك تمثيلية للتمويه ولكن اعترافه بالهزيمة كان جليا.
نزلنا إلي الشارع وركبنا العربة مع عبدالحليم متجهين إلي كوبري القبة، واندفعت السيارة في شوارع خالية تماما وبعد أن عبرنا نفق العباسية لا ندري من أين جاء طوفان البشر، مشهد رهيب لنصبح نقطة في بحر وليتهددنا هذا الطوفان بالاكتساح وقد وارانا الكثيرون إلا أنهم لم يعيرونا أي اهتمام رغم أنهم تعرفوا علي عبد الحليم حافظ ثم بدأت تتوحد الهتافات وتلتحم الأجساد ولم يعد في القاهرة أسفلت وإنما بشر يغطون مساحة الشوارع جميعا.
بعد فترة هاتفني عبد الحليم وسألني هل سنظل هكذا وهل ستظل مصر بدون أغنية تسجل اللحظة؟ أجبته: لن يستمع الناس إلي أغنية تعترف بالهزيمة ولن يسمح لنا النظام بأن نغني هزيمته، قال ساخرا انت مناضل وذهبت إلي السجن وحين أحتاج إليك في قطعة نضال لا أجدك يا أخي نصنع الأغنية ثم نناضل .. أجبته: هذه هي الأغنية وقرأت عليه موال النهار فصمت بعمق ثم أدار قرص التليفون طالبا من بليغ حمدي أن يحضر في الحال وهكذا ولدت عدي النهار التي وزعها الراحل عبدالحليم نويرة، وكانت الأغنية تعترف بنزول الليل وتبشر بنهار ولأول مرة يحس الشعب المصري أن ثمة أملا في الغد ولعبت الأغنية دورا مهما في إعادة الانتعاش الوطني للروح المصرية ومن ثم الروح العربية أيضا لأنني كل ما نزلت إلي بلد يقولون يكفي علي الأبنودي إنه كتب موال النهار في تلك اللحظة.
وقد كانوا جميعا خائفين من عبد الناصر بسبب هذه الأغنية ومن عجيب الأمر أن الأغنية حين كانت تختفي من الراديو كان عبد الناصر يتصل ويسأل عنها .. وبعدها مباشرة سافرت إلي السويس وأقمت مع الفلاحين من الأقارب والأصدقاء هناك في جناين السويس في مواجهة مع العلم الإسرائيلي علي الضفة الأخري وهي لحظة لا تغيب عن عيني وأنا أري الإسرائيليين وأسمع شتائمهم لنا وجلست إلي فتحية أبوزعزوع وعم إبراهيم أبوالعيون وأم علي وعم محمد عبد المولي وأنا أستمع إلي قصص الجنود الذين عادوا من سيناء مهلهلين بثياب تنكرية وأقدامهم منتفخة من المشي الطويل وكيف كان الفلاحون يصنعون الماء بالملح لكي يضعوا أقدامهم فيها ويدقون البصل ليدهنوا به أقدامهم لتخفيف الورم. وكيف كانوا يطمئنونهم لدرجة أن بعض الجنود كانت تأتيه حالات فزع مفاجئة ويصرخ ويجري في الحقول وكانت القنابل مازالت تتساقط عليهم من الجانب الإسرائيلي.
هذه القصص لا يمكن أن أنساها علي الإطلاق .. فيما بعد طلبوا من هؤلاء الناس الهجرة مع بداية حرب الاستنزاف وهي الحرب الرائعة العظيمة التي لم تأخذ حقها من التكريم والتبجيل لجنودها وبطولتهم الحقيقية هذا إلي جانب منظمة سيناء الثورية التي تكونت من شباب مدينة السويس والذين كانوا يعبرون القناة ويعملون عملياتهم الثورية الفدائية .. أصر كثير من الفلاحين على البقاء ومساعدة الجنود ورأيت عودة الجنود مرة أخري وإعادة بناء الجيش وحفر الخنادق في التلال الرملية المواجهة للعدو الإسرائيلي علي شاطئ القناة .. ولم أستطع الفرار وكنت أعود قليلا إلي القاهرة لاستكمال تسجيل السيرة الهلالية، وتأليف أغنيات لعبد الحليم مثل "المسيح" وأيضا كتبت لعبدالحليم "يا بلدنا لا تنامي" و"من قلب المواكب" .. كما كنت أقيم في ذلك الوقت أمسيات شعرية وغنائية.
بدأت بعد ذلك في كتابة أغنيات مثل "يا بيوت السويس يا بيوت مدينتي" وألتحم بفرقة ولاد الأرض في السويس والتي كونها الكابتن غزالي بكل شباب المقاومة من البمبوطية والعمال وغيرهم .. لذا أعتبر أن تجربة السويس هي أفضل ما عشت في حياتي بعد تجربة أبنود والسد العالي والاعتقال والحرب.
نهاية أقول أنا عاشق لمصر الحقيقية وليست مصر الثقافية، مصر التجربة وليست مصر الوهم والتخيل.. ومن أجل ذلك تجدني شيئا مختلفا تماما عن الإخوة المثقفين، أنا لا أنكر دورهم لأنهم أساتذتنا وهم الذين تربت بهم عقولنا ووجداننا ولكن الخبرة الحياتية هي أم الثقافة والعلم وأنا واحد من الناس تعلمت علي يد مصر نفسها في أكثر من مكان وفي أكثر من موقع.
الخميس 10 مارس 2011, 10:10 pm من طرف محمدمنعم
» افاست الاصدار الاخير 2010 بالعربى
الأحد 02 مايو 2010, 6:39 am من طرف الواد الجن
» احدث واكبر مكتبه برامج للكمبيوتر 2010
الأحد 02 مايو 2010, 5:48 am من طرف الواد الجن
» السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
الأحد 02 مايو 2010, 4:57 am من طرف حبيب الروح
» صورة للرجال فقط.....................
السبت 01 مايو 2010, 3:31 am من طرف حبيب الروح
» لعبة للكباررررررررررر فقططططططط
الخميس 29 أبريل 2010, 6:17 am من طرف الواد الجن
» صور نادرة لاسماعيل يس
الخميس 29 أبريل 2010, 3:47 am من طرف حبيب الروح
» شاهد الأن جميع قنوات الشوتايم و المشفره (( مجانا))
الثلاثاء 27 أبريل 2010, 2:43 am من طرف حبيب الروح
» شاهد الفيلم التونسى( اغنية العروس) الممنوع من العرض ليس لاقل من 18سنة
الثلاثاء 27 أبريل 2010, 2:38 am من طرف حبيب الروح